اقتصاد السكان

 

اقتصاد السكان

اقتصاد السكان

يعرف اقتصاد السكان population economics، في منظومة العلوم السكانية، بأنه علم فرعي يشمل جميع الأسس والمبادئ المنهجية الخاصة ببحث العلاقة بين تطور السكان وتطور المجتمع كلّه، وعلى وجه الخصوص التطور الاقتصادي في إطار تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية معينة. وتعتمد البحوث والنظريات في علم اقتصاد السكان اعتماداً أساسياً على المبادئ والقواعد المنهجية العامة لعلم الاقتصاد السياسي التي تؤخذ عادة أساساً لتحليل القوانين العامة للتطور الاقتصادي الاجتماعي ومعرفتها، ومن ثم يمكن القول إنّ المحاولات الأولى لدراسة الجوانب الاقتصادية المرتبطة بالتطور السكاني بدأت من مفاهيم علم الاقتصاد السياسي ومقولاته.
ويشغل اقتصاد السكان عادة حيزاً من المسائل العلمية أوسع من تلك التي تتناولها الديمغرافية الاقتصادية التي تشكل فرعاً علمياً في منظومة العلوم الديمغرافية. وهي حين تتناول تأثير الجوانب الاقتصادية في عملية إعادة إنتاج السكان فإنها تعتمد، في التحليل، القواعد والمبادئ المنهجية والمقولات المحددة في علم اقتصاد السكان.
يرتبط كل من علمي الاقتصاد والسكان بعلاقة متبادلة وثيقة ومتكاملة، ففي حين يحدد تطور الاقتصاد، من نواح كثيرة، السمات الأساسية للتطور السكاني وتركيب السكان، فإن حجم السكان وتركيبهم يؤثران من ناحية أخرى تأثيراً جوهرياً في وتيرة النمو الاقتصادي وتناسباته. ومع التطورات العالمية الحالية يكون لبحث العلاقة والتأثير المتبادل بين التطور الاقتصادي والتطور السكاني أهمية متزايدة في منظومة العلوم الاجتماعية. ولكن البحث العلمي في هذا المجال مازال يواجه صعوبات كثيرة تتعلق جوهرياً بالأسس المنهجية والمفاهيم والمقولات العلمية التي يقتضيها البحث العلمي والتي لم يتبلور الكثير منها بعد. وفي الوقت الحاضر الذي تشهد فيه بلدان العالم الثالث تطورات سكانية مهمة وذات أبعاد عميقة فإن لاقتصاد السكان أهمية متزايدة في بحث العلاقة بين السكان وقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

لمحة تاريخية

أثارت الظاهرة السكانية اهتمام المفكرين منذ القدم، وكانت آراؤهم فيها بدايات أولية لما سيغدو منظومة علمية مستقلة وفرعاً من فروع المعرفة العامة. فقد اهتم بها أفلاطون في مؤلفاته ولاسيما في «الجمهورية"، ورأى أن عدد السكان يجب أن يتناسب مع مساحة الدولة ومتطلبات الدفاع عنها. كما أشار أرسطو إلى المخاطر التي تنجم عن الفقر حين يتجاوز عدد السكان قابلية المساحة الجغرافية المتاحة. ولاستحالة زيادة رقعة الأرض زيادة تتناسب مع النمو السكاني دعا أرسطو إلى الحد من نمو السكان.
وفي العصر الوسيط، يعد ابن خلدون[ر] من أوائل علماء الاجتماع الذين أعاروا اهتماماً خاصاً لدراسة الظواهر السكانية في المجتمع. وتميز فكر ابن خلدون في هذا المجال في بحثه عن العلاقة بين تبدل الحركة السكانية والمتغيرات الاقتصادية. وقد رأى ابن خلدون أن كثافة السكان تسهم في تحسين شروط تقسيم العمل الاجتماعي واستغلال الثروة الاجتماعية بطريقة أفضل.
ومع نشوء الرأسمالية في أوربة، وجوهرها قانون تحقيق الربح، بدأت دراسة قوة العمل من حيث كونها طاقة إنتاجية تكتسب مكانة مهمة في الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية وأخذت علاقة الترابط بين مجمل النشاط الاقتصادي والتطور السكاني ومعدلات النمو السكاني تكوِّن مجالاً مهماً في هذه الأبحاث. وتوجه الاهتمام النظري نحو دراسة هذه المسألة، لما لها من أهمية في تطور النظام الرأسمالي. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يحقق علم السكان تطوراً جديداً في هذه المرحلة بالتلازم مع تبلور علم الاقتصاد السياسي.
 وبكلام آخر فإن مرحلة الانتقال إلى الرأسمالية في أوربة أوجدت شروطاً موضوعية جديدة لتطور علم الاقتصاد السياسي وعلم السكان. فلم يعد هذان العلمان مجرد أفكارٍ عامة، بل اتخذا في أوربة صيغة المعارف العلمية المنسقة، وتكونت بذلك بدايات نشوء النظريات الاقتصادية والسكانية.
كان للمذهب التجاري (المركنتيلية) الفضل في ظهور المفاهيم والمقولات الأولية في علم الاقتصاد السياسي، ولكن هذا المذهب الذي كان يعبر عن أولى مراحل تطور رأس المال التجاري، ويؤكد أثر الربح التجاري في تكوين الثروة الاجتماعية، لم يعر العنصر البشري، ومن ثم المسألة السكانية، أهمية تذكر. كما لم يتعرض أنصاره من أمثال توماس مان Thomas Mun وجون لوك John Locke وجيمس ستيوارت [ر] James Stewart للجوانب المرتبطة به.
وخلافاً لأنصار المذهب التجاري أكد الطبيعيون (الفيزيوقراطيون) أن عملية الإنتاج، لا عملية التداول، هي مصدر الثروة الاجتماعية. ويعود لهؤلاء الفضل الأول في وضع عملية الإنتاج في المركز الرئيسي للتحليل الاقتصادي النظري المنهجي، ومن ثم تحديد المصدر الأساسي للفائض الاقتصادي. وفي هذه المرحلة من تطور علم الاقتصاد السياسي تخطى الطبيعيون مفاهيم المركنتيلية ومنطلقاتها حين عدّوا العمل الزراعي مصدر فائض القيمة، وريع الأرض مصدر جميع أنواع العوائد الأخرى كالربح والفائدة.
من هذا المنطلق يقسم الطبيعيون السكان إلى أربع طبقات رئيسية: طبقة ملاكي الأرض والطبقة المنتجة في العمل الزراعي وطبقة الحرفيين والتجار وهي لا تحقق قيمة مضافة، وأخيراً الطبقة غير المالكة في الريف والمدينة وهي تابعة اقتصادياً للطبقات الثلاث الأولى، وتضم فئات اجتماعية معينة مثل الجنود والخدم والفنانين وهي ذات طبيعة مستهلكة غير منتجة. ولمكانة العمل الزراعي عند الطبيعيين فإن عدد السكان في مجتمع ما يتوقف، إلى حد كبير، على كمية المنتجات الغذائية الضرورية لإعادة تجديد السكان. وفرق ريتشارد كانتيون (1697-1734) Richard Contillon  الرائد الأول الذي مهد للنظرية الفيزيوقراطية بين معدلي النمو السكاني لدى الطبقات الغنية والطبقات الفقيرة، وتطرق فرانسوا كيني (1694-1774) Francois Quenay  مؤسس مدرسة الطبيعيين، في أكثر من موضع، إلى العلاقة بين الإيراد الفردي ومستوى المعيشة من جهة والنمو السكاني من جهة أخرى.
وتعرض مؤسسو علم الاقتصاد السياسي التقليدي إلى المسألة السكانية من حيث ارتباطها بالحالة الاقتصادية. ففي أكثر من مناسبة أكد آدم سميث [ر] (1723-1791)Adam Smith  أن للإمكانات الغذائية المتاحة تأثيراً كبيراً في الكثافة السكانية، كما حاول ديفيد ريكاردو [ر] (1772-1823)David Ricardo  أن يبرهن على وجود علاقة بين الحركة السكانية وحركة رأس المال وتطوره.
السكان والنمو الاقتصادي
تركزت بحوث كثيرة حول العلاقة بين السكان والنمو الاقتصادي، كما تعددت الدراسات التي مازالت مدار جدل، حول الحجم الأمثل للسكان ومعدل النمو السكاني الملائم للنمو الاقتصادي. ويربط بعض الباحثين بين مفهوم الحجم الأمثل للسكان والحجم السكاني الضروري اقتصادياً. ولا شك في أن كل أسلوب إنتاج معين يتطلب حجماً معيناً من السكان يضمن إعادة إنتاجه، ويتوقف هذا الحجم على عدة عوامل أهمها مستوى تطور القوى المنتجة في المجتمع. وتُظهر تجارب البلدان المتقدمة صناعياً علاقة عكسية بين مستوى التطور التقني والنمو السكاني. في حين يكون التخلف الاقتصادي أهم عوامل النمو السكاني المتفاقم في البلدان النامية. وبذلك تبدو العلاقة بين السكان والنمو الاقتصادي ذات طبيعة جدلية. وفي جميع الحالات يكون من المهم، فيما يتصل بالتطور الاقتصادي، التنبؤ بعدد السكان لمرحلة مقبلة طويلة وخاصة بالفئات القادرة على العمل، ذلك أن من المستحيل التنبؤ باتجاهات النمو الاقتصادي من دون توقعات مسبقة لاحتمالات تطور حجم السكان بوصفهم قوةً اجتماعيةً منتجةً أساسيةً. ومما ساعد على تطور علم السكان أيضاً تطور علم الإحصاء في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
نظرية مالتوس واقتصاد السكان
في عام 1798 نشر روبرت مالتوس (1766-1834)  Thomas Robert Malthus أولى دراساته في السكان والاقتصاد. فنشأت بذلك أكثر البدايات أهمية في هذا المجال، وبصرف النظر عن صحة نظرية مالتوس أو خطئها فإنها بما أثارته من جدل وتباين في الآراء حولها كانت تعبر عن أن علم السكان بدأ بالتبلور في منظومة العلوم الاجتماعية بعد علم الاقتصاد السياسي.
تستند نظرية مالتوس إلى وجود قوانين بيولوجية حتمية تحكم عملية نمو الكائنات الحية وتكاثرها، ومنها الإنسان. ومع أن عدداً من الباحثين في علم الأحياء والإحصاء سبق لهم أن تعرضوا لهذه المسألة، فإن ما يميز نظرية مالتوس محاولته إيجاد علاقة رياضية بين النمو السكاني ونمو الناتج الزراعي. وفي تفسيره لتطور الناتج الزراعي استند مالتوس إلى قانون «تناقص الغلة» أو مايطلق عليه «قانون تورغو» (1727-1781) Ann Robert Jacques Turgot أحد ممثلي المدرسة الطبيعية الفرنسيين، ومؤداه أنه مع زيادة استخدام عوامل الإنتاج في الزراعة ولاسيما العمل ورأس المال لا يزداد الناتج الزراعي بنسبة زيادة عوامل الإنتاج وإنما بنسبة أقل. فإذا كان النمو السكاني بحسب نظرية مالتوس يتم وفق متوالية هندسية فإن نمو الناتج الزراعي يتم وفق متوالية حسابية. ويتجلى هذا التباين باختلاف النمو السكاني ونمو الناتج الزراعي وما ينجم عن ذلك من حالات العوز والفقر والجوع. ويقترح مالتوس لتجنب هذه النتيجة ما يطلق عليه «الموانع الوقائية» كالإحجام عن الزواج والحد من التناسل، وإلا أدى الأمر إلى الحروب وانتشار الأمراض، أي ما سماه «الموانع الرادعة» التي تساعد على إعادة التوازن بين النمو السكاني ونمو الناتج الزراعي.
  أثارت نظرية مالتوس جدلاً حاداً بين علماء الاجتماع، وأسماها بعضهم «النظرية المتشائمة». ووجدت فيها النظرية الماركسية، فيما بعد، تعبيراً عن المصالح البرجوازية الأوربية حين تبنت مفهوم «الحد الأدنى للأجور» وسيلة وقائية للحد من النمو السكاني. وقد أثبت التطور اللاحق صحة الانتقادات الموجهة إلى نظرية مالتوس. فمع التقدم التقني والعلمي برز في الفكر الاقتصادي «قانون الغلة المتزايدة»، وبدأ معدل النمو السكاني في أوربة بالتراجع في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولم يتضاعف عدد السكان في العالم إبان خمسة وعشرين عاماً كما تنبأ مالتوس، وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت القارة الأوربية تعاني من فيض المواد الغذائية وليس من نقصها.
لقد ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية «المالتوسية الجديدة» مع تفاقم مشاكل النمو السكاني والاقتصادي في البلدان النامية. وتبنى عدد من البلدان النامية بعض مفاهيم المالتوسية الجديدة في اتباع سياسة سكانية تهدف إلى الحد من التناسل وسيلة وقائية للحد من النمو السكاني المتزايد، إلا أن هذه السياسات لم تحقق الغايات المرجوة منها. وتبلورت مع الزمن مفاهيم «اقتصاد السكان» حين أكد معظم الباحثين العلاقة بين حل المشكلة السكانية ومعضلات التنمية في آن واحد. وتوالت مؤتمرات السكان والتنمية التي تنظمها هيئة الأمم المتحدة. غير أن مؤتمر السكان الأول (بوخارست 1974) اقتصر أساساً على بحث قضايا النمو السكاني في بلدان العالم الثالث.
النظرية الماركسية واقتصاد السكان
تعتمد النظرية الماركسية المنطق الجدلي في تحليل العلاقة بين التطور السكاني وأسلوب الإنتاج بصفته وحدة تجمع القوى المنتجة مع علاقات الإنتاج. ويرى كارل ماركس (1818- 1883) أن تطور السكان وفائض السكان يختلفان لدى الشعوب التي تعتمد على الصيد عنهما لدى التي تعتمد على الإنتاج الزراعي. كما يختلف المعدل المطلق لتكاثر السكان ومعدل فائض السكان باختلاف أسلوب الإنتاج السائد. ويرى أنصار الماركسية أن عدد السكان ومن بينهم القادرون على العمل، ومجمل العمليات الديمغرافية تتحدد بفعل عوامل كثيرة ذات طبيعة اقتصادية ـ اجتماعية، وذات تأثير في عملية الإنتاج يختلف من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى.
من أنصار هذه النظرية فالنتاي (I.D.Valentei (1980 الذي يرى ضرورة تحليل العلاقة المتبادلة بين العمليات الاقتصادية ونمو السكان في ضوء القوانين الاقتصادية الخاصة بأسلوب إنتاج معين ونمط التطور السكاني فيه. إن الكشف عن هذه القوانين يساعد على معرفة الدوافع التي تحدد نمط التطور السكاني. كما أن خصوصية التطور الملائم لنظام اجتماعي معين تؤثر إلى حد كبير، في التطور الاقتصادي فيه. وبسبب هذا التأثير المتبادل فإن اقتصاد السكان يبحث عادة في الأسس المنهجية بغية توضيح العلاقة بين نوعية السكان وتأثيرها في العمليات الاقتصادية من جهة وتأثير التطور الاقتصادي على تطوير الجوانب النوعية للسكان من جهة ثانية. ومازالت مسألة استخدام مقاييس علمية دقيقة في معرفة التركيب النوعي للسكان تطرح عدداً من المسائل المنهجية أمام علم اقتصاد السكان.
في أواخر الستينات خطا علم اقتصاد السكان خطوات جديدة عن طريق البحوث والدراسات التي أجريت للبرهان على العلاقة بين الحاجات الفردية ومستوى إشباعها وبين تنظيم الأسرة؛ أو بكلام آخر بين وضع الأسرة الاقتصادي وسلوكها الإنجابي إذ يرتبط نمو الحاجات بنمو عملية الإنتاج الاجتماعي ولاسيما الإنتاج المادي، وفي ضوء علاقة الحاجات بعملية الإنتاج تتحدد سمات العمليات الديمغرافية. ويرى روتوفا (R.S.Rotova (1979 أن معرفة قوانين تطور الحاجات المادية والمعنوية والاجتماعية توفر الشرط الأول لتحديد اتجاهات التكاثر السكاني في المجتمع، في حين يجب التفريق بين مفهوم «مستوى الحياة» ومفهوم «أسلوب الحياة» الأكثر شمولية. إذ يقتصر المفهوم الأول على الأساس المادي (الاستهلاك الفردي وشروط العمل) في حين يشمل المفهوم الثاني، إلى جانب ذلك، العلاقات الاجتماعية مثل مفاهيم المساواة والعدالة الاجتماعية.
السكان القوة المنتجة الرئيسة
السكان هم الشرط الأساسي المسبق للإنتاج مهما كان نوعه وطبيعته وأسلوبه. ويشترط أسلوب الإنتاج السائد، وفقاً لمستوى تطور تقسيم العمل الاجتماعي، وجود حد أدنى من السكان، ومعدل نمو مناسباً وتركيباً سكانياً معيناً. ومن دون توافر هذه الشروط لن يتمكن أسلوب الإنتاج من إنجاز وظيفته الاجتماعية بكفاية ملائمة للتطور الاقتصادي المنشود. ومن ناحية أخرى فإن لأسلوب الإنتاج حداً أمثل من السكان. فإذا انخفض عدد السكان ومعدل النمو السكاني عن الحد الأدنى المطلوب أو تجاوز الحد الأقصى الملائم فإن عملية الإنتاج الاجتماعي تبدو غير قادرة على أداء مهامها. وربما يتعرض النظام الاقتصادي برمته في بعض الحالات للخطر.
وبذلك يمكن استنتاج أن العدد الموافق من السكان يختلف من أسلوب إنتاج إلى آخر، كما يختلف من مرحلة إلى أخرى في تطور أسلوب الإنتاج ذاته. ومفهوم الحجم الأمثل للسكان هو مقولة تاريخية تحددها شروط كل مرحلة من مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي، أي إن حجم السكان الموافق مشروط بطبيعة النظام الاقتصادي السائد وقوانينه الاقتصادية الموضوعية، وخاصة القانون الاقتصادي الأساسي، ومشروط أيضاً بمستوى الوعي الاجتماعي.
وعلى هذا الأساس فإن العلاقة بين السكان قوةً منتجةً رئيسةً ونمط النظام الاقتصادي تطرح مسألة الحجم الأمثل للسكان واستخدامه معياراً للحجم الفعلي للسكان. وليس الحجم الأمثل للسكان علاقة عددية جامدة، فهو يراوح بين الحد الأدنى الضروري والحد الأقصى للسكان. ويتوقف هذا الحجم على ديناميكية النظام الاجتماعي وقدرته على الاستيعاب. فكلما كان النظام الاجتماعي أقل تطوراً كان الحيّز بين الحد الأدنى والحد الأقصى محدوداً. وفي هذه الحال يلاحظ ميل إلى ثبات نسبي في عدد السكان. وبالمقابل، فكلما اتسم النظام الاجتماعي بالتطور السريع كان الحيّز أكثر مرونة وملاءمة لهذا التطور.
يلاحظ في كثير من الحالات أن معدل نمو السكان ينحرف زيادة أو نقصاناً عن معدل النمو الاقتصادي. وينجم هذا الانحراف عادة عن تأثير عدد من العوامل مثل التطور التقني والعلمي والقيم والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع. وقد يكون هذا الانحراف ذا طبيعة انتقالية طويلة الأمد. فقد يظهر، بعد مرحلة تطور في غالب الأحيان، التطابق بين الحجم السكاني الفعلي والحجم الأمثل. وإن تحقيق مثل هذا التطابق تحدده الإمكانات الواقعية لأسلوب الإنتاج مثل إمكانات التشغيل وتوفير الاحتياجات الاستهلاكية للحجم الأمثل للسكان. لذا يعمد بعض الباحثين إلى القول إن الحجم الأمثل للسكان هو حجم السكان الضروري اقتصادياً. و لكن هذين المفهومين لا يعبران عن شيء واحد فإن الحجم السكاني الضروري اقتصادياً يعد معياراً مهماً وأساسياً للحجم الأمثل للسكان.
السكان والاستعمار الاستيطاني
تعني كلمة مستعمرة في الأصل استيطان جماعة في أرض أخرى خارج حدود دولتهم. وقد تبلور الشكل الأعلى للاستعمار الاستيطاني مع ظهور الرأسمالية الأوربية وبسط سيطرتها المطلقة على بعض المستعمرات. ويرتكز الاستعمار الاستيطاني على توفير مصالح فردية للجماعات المستوطنة في هذه المستعمرات مندمجة بمصالح رأس المال الأجنبي والدولة الرأسمالية التي تستخدم العنف وأساليب الإكراه السياسي والاقتصادي في البحث عن الموارد الطبيعية والأسواق خارج حدودها الجغرافية. وترافق هذه الدوافع عادة عوامل ديمغرافية كوجود فائض سكاني وبطالة في الدولة الرأسمالية الأم (المتربول) والحاجة إلى التخلص من زيادة السكان مقارنة بالموارد الطبيعية والمادية المتوافرة في البلد المعني. وقد عرفت بعض الدول الأوربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فائضاً سكانياً أدى إلى هجرة الأوربيين إلى بعض المناطق الجديدة التي عرفت ما يسمى بالاستعمار الاستيطاني.
ويقدم تاريخ الرأسمالية أمثلة كثيرة على الاستعمار الاستيطاني، فما زال كل من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر والبريطاني لجنوب إفريقية ماثلاً في الأذهان. وفي العصر الحديث تتجلى أبشع أنواع الاستعمار الاستيطاني في إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، فإلى جانب الترغيب الاقتصادي في إحكام السيطرة على الأرض، لجأت الصهيونية العالمية مدعومة من الدول الرأسمالية بصورة خاصة إلى الأيديولوجية الدينية والعرقية في تعبئة شتات اليهود في شتى أنحاء العالم لتحقيق الحلم الصهيوني في إقامة إسرائيل الكبرى على حساب مصالح الفلسطينيين والدول العربية الأخرى.
سعيد النابلسي


لتحميل الملف كاملا 
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-