الهجرة السرية غير الشرعية في بلدان المغرب العربي حالة المغرب- د. نجاح قدور

 

الهجرة السرية غير الشرعية  في بلدان المغرب العربي حالة المغرب- د. نجاح قدور 



تقديم :

       نسعى من خلال هذا البحث إلى إلقاء الضوء على إحدى الظواهر الحساسة التي يعيشها أحد بلدان المغرب العربي وهو المغرب، ويتعلق الأمر بظاهرة الهجرة السرية التي لا يمكن الحديث عنها دون استحضار ما تخلفه من مآسي في صفوف شريحة هامة من الشباب المغربي، حيث أصبح من المألوف الحديث عن انتشال غرقى وموتى وضياع بين هذه الفئة التي تعتبر أهم ما يعتمد عليه المجتمع في تحقيق التنمية انطلاقاً من أن الإنسان هو وسيلة التنمية وغايتها.

       إن أية محاولة لدراسة ظاهرة الهجرة السرية لابد وأن تستند إلى تحليل شمولي يراعي الظروف الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية للمغرب، كما يتطلب ضبط الظروف التاريخية التي أنتجتها.
       والجدير بالذكر أن الهجرة في مفهومها الشامل ظاهرة كونية ليست وقفاً على بلد دون آخر أو زمن دون آخر، وهي بالتالي لاتعني المغرب وحده ولكنها تعني كل بلدان العالم تقريباً، وبالأخص منطقة المغرب العربي. عند الحديث عن الهجرة إلى الضفة الشمالية للمتوسط، تؤكد الأدلة التاريخية أن البشرية جمعاء عرفت هجرات متتالية، فمنذ وجد الإنسان على هذه الأرض وهو يسعى بحثاً عن ينابيع العلم والمعرفة والاكتشاف وعن مستقبل أفضل، وواقع أحسن، يحظى فيهما بالعيش بكرامة وعزة، ومتمتعاً بكامل حقوقه الأساسية.
       وهذه الاعتبارات تبدو ضرورية لمعرفة الظاهرة وإشكالياتها، لأن تفاقم هذه الظاهرة وتطورها وما تخلفه من مآسي جعل منها خطاباً مبتذلاً ومستهلكاً بطريقة لم تعد تسمح بمعرفة الظروف التي أدت إليها، ولا ادراك المخاطر التي تترتب عليها، والسبب في ذلك يعود في تقديرنا إلى إخفاقات التنمية وإلى غياب الكوادر الوطنية المؤهلة للتخطيط والتنفيذ، هذا بالإضافة إلى عدم وجود متخصصين في مجال الهجرة، وهم الذين يقع على عاتقهم القيام ببحوث ودراسات علمية دقيقة حول ظاهرة الهجرة السرية بالإضافة إلى بروز الخطاب السياسي الذي حاول أن يجعل منها ورقة سياسية في العلاقات مع الدول الأوروبية غير أن هذا الطرح لا يعني عدم استهداف محاربة الهجرة السرية بقدر ما يوضح اهتمام المغرب بضرورة إيجاد إطار للهجرة المشروعة نحو أوروبا، ولقد كان من الطبيعي أن يتفهم الاتحاد الأوروبي هذا المطلب المغربي من خلال تصريح أحد المسؤولين عن الاتحاد بقوله:" أنا استشعر وضعية المغرب الذي أصبح بدوره بلد عبور، وبالتالي ضحية الهجرة السرية، يظل منفتحاً على كل حوار يهم موضوع تحديد النسب فيما يتعلق بالهجرة القانونية".
       وبالطبع ، فإن القناعة الراسخة لدى الجميع، هي أن الحركة ضد شبكات مافيا الهجرة السرية ليست سهلة، بل تقتضي الاتصاف بالحزم والصبر، كما يتردد دائماً على ألسنة المسؤولين في المغرب والاتحاد الأوروبي المقتنعين بحتمية التعاون الشامل في إطار مسؤولية مشتركة بين شمال دول الحوض المتوسطي وجنوبه.
       إن استحضار مشاهد زوارق الموت وما تخلفه من ضحايا، بقدر ما يثير قلق الدول المستقبلة لتيارات الهجرة في الضفة الشمالية – ليس من باب الرأفة وإنما سعياً لاجتناب التدفقات البشرية المتنامية – يكشف بعمق عن الأوضاع التي يعيشها الشباب المغربي، والتي تدفع به إلى الموت، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن الأسباب التي تدفع بعض هؤلاء الشباب إلى تقديم أنفسهم وأرواحهم قرباناً من أجل الانتقال إلى الضفة الشمالية-الجنة الموعودة – بالرغم من مآسيها ومشاكلها وبالرغم من العنصرية التي قد يتعرضون لها.
       ما الذي يدفع الإنسان إلى اختيار الموت بدلاً من العيش في بلده؟ لكن بالمقابل  كيف يمكن لإنسان أن يعيش في بلد لا يجد فيه أبسط مقومات الحياة الكريمة؟ كيف يمارس العالم الآخر إغراءاته على الشباب المغربي؟ أليس من الأجدر استثمار المؤهلات البشرية لخدمة التنمية لهذه الوضعية، وجعل الشباب المغربي حلقة وصل لبناء المغرب العربي الموحد؟.
أولاً-الشباب المغربي بين الواقع المتردي والطموح إلى الهجرة.

1. الشباب: محاولة لتحديد المفهوم:-

       يستخدم مفهوم (الشباب) في مجالات عديدة سواء منها الدراسات الإجتماعية الاقتصادية والنفسية والتربوية، ولم يقف استعمال هذا المفهوم عند هذا الحد بل أصبح من الركائز التي يعتمد عليها الخطاب السياسي ووسائل الإعلام، سواء في الجوانب المرتبطة بإنحراف الشباب أم بطالة الشباب أم هجرة الشباب.
       لكن على الرغم من الحضور القوي لمفهوم الشباب في خطابات متعددة إلا أنه يطرح لبساً في التعريف، فكيف يمكننا أن نقارب هذا المفهوم؟.
       فلو رجعنا إلى قواميس اللغة لوجدنا أن كلمة (شباب) ترد بمعانٍ متعددة حيث يقابلها لفظ (شبب) وتعني (الفتوة والحداثة) (1)، وجمعها شباب وشبيبة، ومرادفاتها كثيرة منها (يافع) و (مراهق) و (فتى)
و (غلام) وهي كلمات لاتدل على مراحل عمرية محددة ومنفصلة بقدر ما تشير إلى خصائص جسدية وأخلاقية ونفسية ووجدانية لفترة من فترات الحياة، وهي إجمالاً خصائص القوة والنشاط..!.
       ويحدد بعض الباحثين فترة الشباب ما بين سن السادسة عشر وسن الثلاثين، ويمثل الشباب فئة هامة وحيوية في البلدان العربية عامة والمغرب على وجه الخصوص، إذ تمثل هذه الفئة الغالبية من السكان، وتتميز هذه الشريحة بديناميكيتها وقدرتها العملية، فهي تتسم بالحماس والطموح و الحيوية.
       غير أن طموح هذه الشريحة كثيراً ما يصطدم بتعقيدات الحياة اليومية والمشاكل الاجتماعية التي يتخبط فيها الأفراد وهو ما يحدث اضطرابات في حياة الشباب قد تؤدي بهم إلى الانحراف أو التفكير في الهجرة والابتعاد عن الموطن الأصلي في غياب الشروط الضرورية للعيش الكريم.

2. الهجرة السرية وتطورها:

       تتعدد دلالات الهجرة سميولوجياً بين هجرة سرية، هجرة غير شرعية، هجرة غير قانونية، ويحتوي المفهوم الأخير على حمولة أكثر مأساوية، فهي بالمقارنة مع الهجرة الرسمية تعتبر غير شرعية وغير مرغوب فيها.
       لقد عرفت الدول الأوروبية المستقبلة لليد العاملة وجود هجرة تلقائية منذ أمد بعيد، أصبح يطلق عليها الهجرة السرية أو اللاقانونية، هذه الهجرة التي بدأت في عقد السبعينيات تزامنت مع إلغاء استيراد اليد العاملة الأجنبية من قبل الدول الأوروبية، وعرفت ارتفاعاً في وتيرتها في عقد الثمانينيات مع اتفاقية (شنكن) وتوحيد أوروبا، وقد وضعت الدول الاوروبية في الفترة ما بين 1973 و 1979 قوانين خاصة بالعمال الأجانب لحماية سوق العمل الوطنية (2)، وبما أن الاولوية أعطيت لحماية سوق العمل بتقليص حق العمال الاجانب في العمل، فإن تقنين حركة الهجرة طرحت مشاكل بالنسبة للشباب المغربي، فمادام هؤلاء لا يحصلون على حق الإقامة فإنهم يتحولون إلى مهاجرين سريين.
       ويلاحظ أنه في أعوام الثمانينيات، قد ارتفع عدد هذه الفئة من المهاجرين السريين بفعل دخول قوانين الاجانب حيز التنفيذ، لكن رغم ذلك لم تضع تلك القوانين حداً لتدفق المهاجرين لأسباب عديدة من بينها وجود شبكات للهجرة داخل المغرب وخارجه تخطط لعملياتها بعيداً عن الأعين، ويتحرك أفرادها مثل الأشباح، تحت جنح الظلام، في تهريب أرواح البشر والإلقاء بهم في أعماق البحر متسببة في سلسلة من المآسي الإنسانية والإجتماعية لعائلات الضحايا، هذه الشبكات الأخطبوطية منتشرة...الخ.
       ومع ذلك ازداد نشاط الهجرة السرية إلى أوروبا بشكل أكثر وضوحاً مع إغلاق الحدود الإسبانية في وجه المغاربة، وتحول مضيق جبل طارق إلى مقبرة للضحايا من الشباب، وقد احتلت مشكلة الهجرة الصدارة في الخطابات السياسية والإعلامية منذ عام 1991، وبما أن أسبانيا- بوابة أوروبا- فرضت التأشيرة على كل الذين يودون دخول أراضيها من المغاربة، فإن هؤلاء حاولوا بكل الطرق الوصول إلى أوروبا سواء بأساليب شرعية أو غير شرعية. بالرغم من الحراسة المشددة التي حاولت أسبانيا فرضها للحيلولة دون قدوم الأجانب إليها، خاصة الشباب المغربي، فإن قوارب الموت استمرت في نقل شرائح من المجتمع المغربي معظمها من الشباب الذين ضاقوا ذرعاً بالفقر والتهميش، وطمحوا للوصول إلى الفردوس المقصود (أوروبا)، الذي ساهمت في الترويج له شبكات تهريب وتزوير وعصابات تتاجر في مستقبل شباب أصبح همه الوصول إلى الضفة الأخرى من المتوسط، رغم كل الخسارات المتوقعة، فما الدافع إلى اختيار هذه الطريق المظلمة وعدم الاكثرات بالمخاطر.

3. أسباب الهجرة وعواملها:

       تتعدد الأسباب التي تدفع الشباب إلى التفكير في الهجرة، وتتجلى أساساً في الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها المغرب، كما تبرز أسباب أخرى ذات أهمية بالغة في توجيه تيارات الهجرة السرية، ومن ضمنها القرب الجغرافي وكذلك التمثلات التي يحملها بعض الشباب حول أوروبا كأرض خلاص.

أ. الأسباب الاقتصادية:

       يتميز اقتصاد المغرب بهشاشته وتبعيته للغرب في إطار النهج الليبرالي، هذه التبعية فرضت انصياع المغرب لشروط وتوصيات المنظمات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونادي باريس، وهو ما أدى إلى تضرر الاقتصاد المغربي الذي يعاني من ضعف التجهيزات في ظل المنافسة غير المتكافئة، الأمر الذي نتج عنه تراجع في الأنشطة الاقتصادية التقليدية من صناعة تقليدية محلية، وتضاءلت معه فرص الشغل، ونتج عن ذلك ارتفاع مهول في نسبة البطالة بين الشباب المغربي، فطبقاً لإحصاءات أوردها البنك الدولي قدرت البطالة في صفوف الشباب حوالي (37%) من نسبة البطالة الكلية بالمغرب(3)، في حين نجد أن الإحصائيات الرسمية تشير إلى بعض الأرقام ذات الدلالة، وذلك أن عدد العاطلين ضمن شريحة الشباب التي يتراوح سنها بين 15و24 سنة والتي يقدر عددها بمئتين وثلاثة ملايين وسبعة وسبعين وتسعمئة وألف، قد بلغ سنة2005 (316) ألف  و(803 )، كما أن عدد العاطلين في الشريحة التي يتراوح عمرها ما بين 25 و 34 سنة قد قاربت في ذات السنة (370 ألفاً)، بالإضافة إلى ما يزيد عن (100 ألف) من حاملي الشهادات(4)  نسبة البطالة هذه مست بشكل كبير الشباب من حاملي الشهادات العليا، وهو ما خلف استياءً في أوساط هذه الفئة بصفة خاصة، وفي أوساط المجتمع المغربي بصفة عامة، مما أدى ببعضهم إلى  عزوف أبنائهم عن متابعة لدراستهم الجامعية والعليا!.
       وهذا ما دفع ببعضهم إلى طرح سؤال مركزي..كيف السبيل إلى تحقيق أهداف ومطامح الشباب المغربي، أو بالأحرى حاضر ومستقبل المغرب، هل بذات النموذج التنموي الذي شهد إخفاقات على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، أم بأفق تنموي، تكون ركيزته الأساسية التعليم الفعال والبحث العلمي المنتجين للثروة؟ ويتزامن هذا أيضاً مع تفعيل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي ترمي أهدافها الأساسية إلى الحد من تعاظم الازمة الاجتماعية وتلبية المطالب الاجتماعية المشروعة.

ب. الأسباب الاجتماعية:-

       إن فشل المغرب في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية يعود إلى طبيعة الأهداف التي بني من أجلها النهج الإداري، وإخضاع الحياة الاجتماعية والاقتصادية لمقتضيات القرار السياسي، وليس العكس، كما هو الشأن في الأنظمة الديمقراطية.
       فمع تفاقم أزمة الاندماج الاجتماعي داخل حياة المجتمع المغربي، ومع التغيرات السوسيو ثقافية التي عرفتها عناصر منظومته الاجتماعية، إلى جانب التحولات الدولية، وتراجع الأيديولوجيات الكبرى داخل المجتمعات
(الثالثية) أصبح التفكير في الهجرة حلاً لهذه الأزمة عند معظم أفراد المجتمع المغربي، وبخاصة شريحة الشباب.
ج. الأسباب السياسية :
       إن إنتهاج المغرب لاستراتيجية التناوب على السلطة بين الأحزاب السياسية زادت من تخلف المجتمع المغربي، لأن هَمّ هذه الأحزاب هو تكديس الثروات والتسابق على المناصب السياسية والإدارية لتحقيق المزيد من المكاسب الاقتصادية، مما جعل المغرب لا يحقق التنمية المنشودة لجميع فئات المجتمع المغربي، فالأحزاب السياسية في المغرب دائماً تتحدث عن الديمقراطية وعن الانتقال الديمقراطي والتغيير، وتوهم المسؤولين بنجاح تدبير الشأن العام لسياستهم وفقاً لتقارير لا يعرفها إلا المستفيدون، وهم أعضاء المكاتب السياسية للأحزاب وحاشيتهم ، وإنّ ما يوضح فشل هذه الأحزاب وبرامجها هو عدم قدرتها على تقديم برامج تتحقق فيها آمال الشعب المغربي وأحلامه التي تتبخر مع كل سياسة حكومية جديدة، فالواقع يؤكد على استمرارية الاقتراض من الخارج وخاصة من البنك الدولي وتوابعه، ومزيد من خصخصة المنشآت الوطنية والتفويت فيها للأجانب، والنتيجة هي استفحال البطالة بين الشباب المغربي.
       إن الأحزاب السياسية تعتبر من أهم الأسباب في تخلف المجتمع المغربي لأنها عادة ما تهمل الشأن الاجتماعي وتتضافر مع الحكومة في إبقاء الباب مغلقاً في وجه حاملي الشهادات العليا، إن هذه الأحزاب ساهمت في تفشي الفساد وشل التقدم والنمو وحركة التطور، فالواقع المغربي يشهد على أن ألاَّ جديد هناك ولا ديمقراطية تتحقق في المستقبل المنظور مادامت هذه الأحزاب تسير في نهجها التقليدي، وما تزايد نسب عزوف الشباب المغربي وغيره من الفئات الاخرى عن المشاركة في الأحزاب السياسية سوى مؤشر قوي على سلبيتها وعدم فائدتها حيث أصبحت عاملاً معوقاً للتنمية الاجتماعية و الاقتصادية.
       لكن هناك في المقابل تصحيح يقوده ملك البلاد في محاولة لتحقيق التنمية البشرية التي ترمي ضمن أهدافها الأساسية إلى إخراج الفئات الاجتماعية المهمشة من مأساتها وحياة الذل التي تعيشها..إنه تغيير حقيقي يستهدف الفقراء والشباب في محاولة لتحسين وضعيتهم الاقتصادية والاجتماعية.
د. العامل البيئي أو الجغرافي:
       يضاف إلى العوامل المساهمة في الهجرة من اقتصاد وسياسة، عامل القرب من أوروبا، ذلك أن المغرب يشكل بوابة رئيسية وصلة وصل بين أفريقيا وأوروبا، هذا الموقع الجغرافي المتميز على بعد (14) كلم، ساهم في تسهيل عملية انتقال الأفارقة على العموم والمغاربة على الخصوص إلى الضفة الشمالية للمتوسط، وإذا كان القرب الجغرافي قد ساهم في فترة الفتوحات الإسلامية في تسهيل فتح الأندلس على يد طارق بن زياد فإنه أصبح اليوم وبعد مضي قرون عديدة ملاذاً لكل الذين يئسوا واستحال عيشهم، ويتطلعون لعالم آخر مختلف لم يعرفوا عنه شيئاً سوى صورة بنيت في مخيلتهم، تدفعهم إلى المخاطرة بأرواحهم وراء آمالهم وفي ظل قساوة الحياة اليومية.
       إذا كان الباحثون في الدراسات السوسيولوجية الإستراتيجية يعتبرون بلدان شمال أفريقيا عموماً والمغرب على وجه التحديد، قنطرة عبور، ليس فقط لرؤوس الأموال والرساميل، وإنما أيضاً لأسراب من البشر في مقتبل أعمارهم ممن يلقون بأرواحهم وسط أمواج المتوسط تستهويهم لحظة الوصول إلى الضفة الأخرى.
       والجدير بالذكر أن البطالة والتهميش التي تطبع حياة بعض الشباب المغربي لم تكن السبب الوحيد وراء تنامي ظاهرة الهجرة السرية، بل تضافر معها العامل النفسي والانبهار الخادع الذي يقع فيه الشباب المغربي بأوروبا.
هـ.العامل النفسي للهجرة:
       قد يكون عالم الاجتماع ابن خلدون صادقاً فيما ذكره في مقدمته الشهيرة من "أن المغلوب دائماً مولع باقتداء الغالب في نحلته وأكله وملبسه وسائر أحواله وعوائده"(5). إنها بالفعل ضريبة جديدة من ضرائب التبعية التي تغرق فيها بلدان الجنوب ومن ضمنها المغرب، فالانبهار بدُنيا الآخر وطريقة عيشه والرغبة في محاكاته في سياق الاغتراب والبحث عن الذات المفقودة والهوية المجزأة التي ترفض البلد الأصلي وتأمل في تحقيق هوية البلد الأوروبي المستقبل، كلها تجعل الشباب يضحون بأرواحهم ويغامرون بها بين أمواج المتوسط، فالذين تكتب لهم النجاة يهرعون إلى التخلص من أوراق هوياتهم لاكتساب هوية جديدة، أما الذين استحال عليهم الوصول فلن يكون مصيرهم سوى مقابر بحرية تتسع للمئات بل للألوف.
       لقد تبين من خلال دراسة حول (تصور الشباب القروي لأوضاع المهاجرين في البلدان المستقبلة) أن الغالبية العظمى من هؤلاء يستحسنون الأوضاع في البلدان الأوروبية، ويفضلونها على وضعية البطالة في بلدهم، وقد عبر عن ذلك أحدهم بقوله:"نعم أفكر في الهجرة نظراً للأوضاع المزرية في المغرب، حيث قلة الشغل، والآفاق مسدودة، هذا إضافة إلى أنه غير مرحب بك في بلدك، فالمال هويتك، صحيح أن الغرب مجهول بالنسبة لنا لأننا لسنا موجودين به، لكنه فرصة لجمع المال" (6).
       هذه الصورة البسيطة و المعبرة هي بدون شك حالة من بين مئات الحالات التي يكشف الواقع المغربي عن وجودها، لأن غياب فرص العمل والاندماج في الحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى ضعف التأطير الثقافي والسياسي الذي يمكن أن تلعبه هيئات المجتمع المدني ساهم بشكل واضح في التشجيع على الهجرة، بالإضافة إلى "التمثلات" التي يحملها الشباب المغربي عن أوروبا، وما تساهم به في تأجيج الرغبة في الهجرة دون تقدير المخاطر، فأوروبا بالنسبة للعديد منهم تعد بمثابة الفردوس المفقود والسبيل الوحيد للإنتهاء من متاهات البطالة والتشرد والتهميش، والتفكير في الهجرة يمثل الحل الأمثل لذلك.
       لقد أظهرت دراسة اجتماعية بمنطقة بني ملال بالمغرب أن حوالي
(96%) من المبحوثين الذين شملتهم الدراسة عبروا عن رغبتهم الملحة في الهجرة، بأي شكل من الأشكال، فما يأتي به المهاجرون صيفاً من سيارات فاخرة، وغيرها من السلع لصالح أسرهم- يضيف بعض المبحوثين- يتبين أن عسل الضفة الأخرى يستحق اللعب بالنار عبر ركوب قوارب الموت(7).

و. العامل التاريخي:
       ما انفكت ظاهرة الهجرة السرية أو الهجرة غير الشرعية تتواصل وتتسع عبر المكان والزمان، ولعب العامل التاريخي دوراً في تنامي هذه الظاهرة وانتشارها عبر المجال الجغرافي الواسع.
       ذلك أن العلاقة التي تربط دول الشمال ببلدان الجنوب هي علاقة تاريخية مبنية على عدم تكافؤ وعلى واقع استعماري خلف شعوراً بمسؤولية دول الشمال تجاه دول الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وفعلاً فقد ولّدت تلك الحقبة الاستعمارية العديد من الإحباطات التي مازالت آثارها قائمة لدى شعوب بلدان الجنوب التي تشعر أنها كانت عرضة للاستغلال ونهب خيرات بلادها من قبل تلك الدول الاستعمارية، وهذه الخلفية التاريخية هي التي جعلت العديد من الأشخاص في البلدان التي كانت عرضة للاستعمار تحاول البحث عن أمل في دول الشمال افتقدته في بلدانها بسبب مخلفات استعمارية لا ينكرها أحد.
       هذا الوضع الاستعماري خلف بدوره فقراً ملحوظاً في بلدان الجنوب الأمر الذي انعكس على قدرة تلك البلدان في توفير مواطن الشغل للباحثين عنها من الشباب خصوصاً..وأمام انتشار وسائل الاتصال
والمواصلات، وفي عصر طغت عليه ظروف العولمة في كل مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والاتصالية لم يعد ممكناً تجاهل رغبات الشباب والعاطلين عن العمل وتطلعهم لفتح آفاق جديدة أمام مستقبلهم (8).
ثانياً-المغرب بلد مصدر للعمالة:
       يعتبر المغرب من أهم بلدان شمال افريقياً المصدرة للعمالة المهاجرة، ويظهر ذلك جلياً من الإحصاءات الرسمية التي توضح تواجد المغاربة في معظم بلدان العالم، بالإضافة إلى نزعة الشباب المغربي نحو الهجرة كمخرج من العطالة والتهميش التي تعيشها شريحة كبيرة من المجتمع المغربي.


1.المهاجرون المغاربة في العالم:
       تعتبر الهجرة ظاهرة طبيعية وحاجة إنسانية حثت عليها الشرائع والأديان، فالدين الإسلامي على سبيل
المثال يشجع على الهجرة ويدعو إليها، وخاصة في حالة استحالة العيش بكرامة وأمان، وذلك في مثل قوله
تعالى:(ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها..).
       وعلى امتداد السنوات والأجيال عرفت الهجرة في كل أنحاء المعمورة خطاً بيانياً تصاعدياً، مازال متواصلاً حتى الآن، بل إنه مرشح للارتفاع اليوم أكثر من أي وقت مضى، بفعل عدد من المؤثرات والعوامل السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
       وإذا كانت لغة الأرقام في ستينيات القرن الأخير توضح أن عدد المهاجرين بلغ 70 مليون شخص، فإن واقع اليوم يشهد بأن هذا العدد وصل الآن إلى (175) مليون مهاجر، في موجة بشرية تلف العالم كله.
       و وفق تقرير للمنظمة العالمية للهجرة، فإن شخصاً من أصل(35) في العالم هو مهاجر، أي ما يمثل (3%) من مجموع سكان العالم(9).
       أما فيما يتعلق بالمغاربة المهاجرين عبر العالم، فقد بلغ عددهم عام 2003 (2.582097)، يتوزعون عبر كل القارات تقريباً، وقد ارتفع هذا العدد عام 2004 ليصل إلى (3.089090) تستقطب أوروبا وحدها من بينهم حوالي (82%).

ظاهرة الهجرة في المغرب في ازدياد، وذلك للأسباب العديدة المؤدية لذلك (كما أشرنا إلى ذلك سابقاً).
2- الشباب المغربي و هاجس الهجرة الدائم:
       تشكل ظاهرة الهجرة السرية في صفوف الشباب المغربي جزءاً من ظاهرة الهجرة ككل، بيد أنها لم تنل اهتمام الباحثين إلا بعد إغلاق الحدود الإسبانية في وجه المغاربة سنة 1991، وقتها أصبحت بمثابة مشكلة في صميم العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والمغرب.
       إن المتتبع لمسارات الهجرة المغربية سيجد أنها ظلت حاضرة باستمرار، ولم يتغير سوى شكلها، فالإحصاءات تؤكد تواجد الجالية المغربية ببلدان الاتحاد الأوروبي، حيث تبلغ الجالية المغربية في فرنسا حوالي (32%) من المقيمين الأجانب.
       إذا سلمنا جدلاً بأن هذه النسبة من المهاجرين بفرنسا ماهي إلا صورة مماثلة لنسب أخرى بدول عديدة كألمانيا، وإسبانيا، وإيطاليا، فإنه من المؤكد أن الظاهرة تتم بأشكال غير قانونية وغير مرغوب فيها. فالتعامل مع قضية الهجرة لطالما غلبت عليه المقاربة الأمنية وعسكرة الحدود في وجه المتدفقين من الشباب اليائسين، ولعل الأرقام المستخلصة من تطور هذه الظاهرة كفيل بتقديم صورة أكثر دقة عن خطورتها ، ففي سنة 1995 ألقى حرس الشواطيء الإسباني القبض على 1363 مهاجراً سرياً حاولوا التسلل إلى الأراضي الإسبانية بطريقة غير قانونية. وخلال ستة الأشهر الأولى من سنة 1996 م تم إلقاء القبض على حوالي ألف مهاجر سريٍ أغلبهم من الشباب المغربي(10).
       وخلال منتصف العام 2001 حاول ألف مهاجر الوصول إلى الأراضي الإسبانية في يوم واحد، منهم من اعتقل ومنهم من أصيب بحروق خطيرة، بعدما انسكب الوقود في القارب، وخلال عام 2003 تم بالمغرب تفكيك (1200) شبكة متخصصة في تهريب الأشخاص.
       وحسب المصادر الأمنية الإسبانية، فإن ما مجموعه (28 ألفاً) و 890 مهاجراً سرياً تمكنوا منذ بداية السنة الجارية (2006) من الدخول إلى جزر الكناري على متن قوارب تقليدية(11).
       رغم ما تقدمه المؤشرات الإحصائية من ارقام حول الظاهرة، فإن خطورتها تتمثل في الصور البشعة التي يتم بها فقدان شباب في مقتبل العمر، وفيما تخلفه من آثار لعلة سلبية على البناء الاجتماعي وتطوره، فهل تمثل الهجرة فرصة للشباب المغربي لتحقيق مطامحه والخروج من براثن الفقر والبطالة والحرمان، أم أن مأساته تتجدد بصورة أخرى؟!.


3. الهجرة السرية أو البحث عن مصير مجهول:
       لعل الأرقام والمعطيات التي تتناقلها وسائل الإعلام عن مآسي الهجرة السرية كفيلة بتقديم صورة أكثر دقة عما تخلفه من ورائها من دمار وموت، فقد أصبح والمعتاد في أن نسمع في الخطاب الإعلامي الحديث عن ضحايا و غرقى، لدرجة أصبحت معها ظاهرة الموت والغرق قاعدة وأصبحت النجاة استثناء.
       تتعدد الطرق والوسائل والموت واحد، فمن الشباب من يختار شمال المغرب لقربه من أسبانيا، ومنهم من يفضل طريق تونس مالطا، لكن تتعدد أسباب الاختيار والغرق واحد.
       يشكل اختيار الوسطاء أنجع الحلول بالنسبة للمهاجرين، لكون الوسيط أكثر خبرة ومعرفة بالطرق والوسائل المستعملة للوصول إلى الضفة الأخرى، غير أن الأمر يقتضي توفير مبلغ باهظٍ من المال لطالما افتقد إليه المهاجر، وهو ما يدفع هذا الأخير إلى البحث بكل الوسائل عن جمع المبلغ المطلوب حتى ولو اقتضى الأمر استعمال طرق غير مشروعة كالسرقة والتهريب.
       ومن المعلوم أن تكاليف عملية الهجرة السرية تبلغ ما بين (15) ألف درهم و (25) ألف درهم مغربي، وليس هناك من الضمانات ما يجعل المهاجر في مأمن من المخاطر، ففي كثير من الاحيان يتم نقل المهاجرين من قبل الوسطاء عبر قارب من شواطيء تطوان إلى شاطيء مدينة مغربية أخرى، ويتم إيهامهم بأنهم قد وصلوا شواطيء الجزيرة الخضراء، لأن العملية عادة ما تتم في الليل، وهذا لا يتيح للمهاجر التأكد ومعرفة وجهة القارب(12).
       تعتبر الشواطيء المغربية والتونسية وربما الليبية أيضاً أفضل المناطق للانطلاق وبالرغم من خضوعها أحياناً إلى المراقبة، إلا أن الشبكات المتخصصة في تهجير الشباب تكون أكثر دراية بالأماكن البديلة والوقت المناسب لذلك.
       إِن خطورة وثقل الظاهرة ومخلفاتها لا يمكن إدراكها إلا من خلال المعطيات الدقيقة، وهذا سيتضح من خلال الأرقام والإحصائيات التي يوضحها الجدول التالي:-
جدول رقم (2) بعض ضحايا الهجرة السرية خلال عام واحد .

3/8/20014
22/8/2001
12/9/2001
18/10/2001
28/10/2001
1/8/2002
2/8/2002
تواريخ متفرقة
المجموع
3 من 30 كانوا على متن زورق خرج من الحسيمة إلى الميريا ماتوا غرقاً.
انتشال جثة مغربي بشواطئ قاديس.
إيقاف 60 شاباً مغربياً، 4 من بينهم ألقوا بأنفسهم في البحر بشاطيء كابو ديكاطا.
9 ضحايا يلقون بأنفسهم في البحر بشواطيء الكناريا.
3 جثث في حالة تحلل قرب الميريا.
قاصر مغربي يموت تحت عجلات حافلة بالجزيرة الخضراء.
شاب عمره 18 سنة مات غرقاً بشاطيء فونتي بنتوار.
13 مغربياً يموتون غرقاً خوفاً من مطاردة دورية للحرس المدني الإسباني.
عدد 116 مغربي توفوا في ظروف غامضة معظمهم في البحر.
148 حالة وفاة.
المصدر: كنزة الغالي: نساؤنا المهاجرات في إسبانيا، منشورات الزمن، الدار البيضاء / 2004، ص47.
       يتضح من الجدول السابق أن عدد ضحايا الهجرة السرية قد بلغ خلال عام واحد حوالي 148 حالة
وفاة، أي في الفترة الممتدة ما بين 3/8/2001 و 2/8/2002 وهذه المعطيات المقدمة دون شك ساهمت إلى حد ما في تقريب الصورة الحقيقية لمآسي الهجرة، وإن كان الواقع أكثر من أن تستوعبه الأرقام، ذلك أن أشكالاً عديدة للهجرة بدأت تبرز مؤخراً، حيث لم تعد الهجرة السرية تقتصر فقط على الشباب الذكور بل أصبحت تهم عدداً كبيراً من الفتيات والأطفال القصر، وبذلك أصبحت الهجرة تعبر عن خلل في البنية الاجتماعية، وعن تهميش اجتماعي واقتصادي لشرائح معينة من المجتمع المغربي(13).
وإذا كان الأمل الذي يراود كل مهاجر هو الوصول إلى الضفة الشمالية من الأبيض المتوسط، فإن الوصول له وجه آخر للاغتراب والمآسي، فنعيم الدول الأوروبية الذي طالما توهمه الشباب المغربي، وصورة الديمقراطية المتخيلة سرعان ما تزول لتكشف القناع عن صورة أخرى تقوم على الإقصاء والتهميش، وأول سؤال يطرحه الشاب المهاجر هو: من أنا؟ وما دوري ومكانتي في مجتمع الثورة التكنولوجية؟.
       إنها أسئلة الهوية التي تجعل المهاجر من الناحية النفسية والاجتماعية شخصاً لهويات متعددة لا يملك أياً منها، فلا هو يعيش في بلده مكرماً ليدرك حلاوة الوطن، ولا هو قادر على العيش في وسط لا يقاسمه هواجسه وآلامه، فالهوية الفردية تتنافي وتنصهر داخل هوية الجماعة في مجتمعاتنا العربية، وسؤال الهوية بالنسبة للمهاجر يبدأ من الأسرة والقبيلة والوطن، وكلها أشياء يفتقدها في بلدان المهجر المختلفة عنه لغوياً وثقافياً
ودينياً، وبذلك يصبح المهاجرون بمثابة أقلية ليس لها أمة(14).
       إن الخطابات المروجة عن أوروبا الديمقراطية الحرة المتقدمة والمؤمنة بالحوار والاختلاف واحترام حقوق الإنسان، سرعان ما تنكسر وتمحوها وقائع الحياة اليومية التي يعيشها المهاجر، فتبدو له هذه الشعارات لا معنى لها، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمواطن عربي ، فهذه الشعارات إن صحت فلا تنطبق إلا على المواطن الأوروبي، أما المهاجر العربي لا يبقيه في أوروبا غير استيائه من بلده وواقعه المزري.
       لقد أكدت الممارسات العنصرية المستمرة التي زادت حدتها بعد 11/9/2001 أن المهاجر- وخاصة المهاجر السري الذي لا يمتلك رخصة الإقامة القانونية - يعيش في وضعية مزرية.
       إن ما حدث في إسبانيا خلال فبراير من سنة 2000، يثبت أن حملة الكراهية والحقد متواصلة ضد كل مهاجر، وستظل مشهداً تراجيدياً في ذهنية كل المهاجرين المغاربة الذين تعرضوا لأعمال عنف شنيعة، لقد مثلث هذه الأحداث واحدة من الصور الكثيرة التي تُظهر صعوبة التعايش وزيف الشعارات.
       ففي  هولندا على سبيل المثال تم استحداث نصوص قانونية متشددة تستهدف طرد المهاجرين والاعتداء على  أماكن عبادتهم والمس بحرية تعبيرهم، وحقهم في الأمن والاستقرار، رغم ما تكفله المواثيق الدولية من ضمانات مكرسة لحماية حقوق المهاجرين وأفراد أسرهم(15).
       ولكن على الرغم من ذلك فإن الأمر يقتضي البحث عن حلول ناجعة لإيقاف نزيف الهجرة السرية التي تهم شريحة هامة من الشباب المغربي، والتي أصبح شغلها الشاغل وابتكار الأساليب للهجرة والابتعاد عن واقع ما تصنعه بأيديها وإنما قدّر لها أن تجني سلبياته.

ثالثاً- الهجرة وتدابير الحد منها:
       تتواصل ظاهرة الهجرة السرية أو الهجرة غير الشرعية كما يطلق عليها ورغم المجهودات التي تبذلها بلدان الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، والمقاربات والإجراءات الامنية التي تقوم بها دول شمال المتوسط بهدف إيقاف هذه الهجرة فإن هذه الظاهرة، ما انفكت تتواصل وتتسع عبر المكان والزمان.
       والسؤال الذي يطرح نفسه هل المقاربات الأمنية كفيلة بوضع حل لهذه الظاهرة أم هناك حلول أخرى ينبغي البحث عنها للقضاء على الهجرة السرية.
1.المغرب في مواجهة الهجرة السرية:
       إن المغرب كغيره من بلدان المغرب العربي وبقية بلدان العالم الثالث يعاني من ظاهرة الهجرة، وذلك بحكم موقعه الاستراتيجي على المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، الذي شكل على الدوام واجهة مفتوحة على أوروبا، وفضاءً للتلاقح الحضاري والتواصل البشري عن طريق الهجرة القانونية.
       إلا أن العقدين الأخيرين، عرفا منعطفاً خاصاً تجلى في تنامي ظاهرة الهجرة السرية من خلال ما اصطلح على تسميته بـ(زوارق الموت).
       وتبعاً لذلك بدأ واضحاً أن المغرب متضرر هو الآخر من الهجرة غير المنظمة حيث أخذ يتحول تدريجياً إلى معبر لها، وبلد إقامةٍ لبعض القادمين من بلدان أفريقية، الراغبين في الهجرة نحو أوروبا.
       وإذا كان المغرب يمر بظروف صعبة جعلت مواطنيه يلجؤون للهجرة، فإنه ما انفك يدعوا إلى إدماج المهاجرين في دول الاتحاد الأوروبي، وفي نفس الوقت يبذل جهوداً متواصلة على العديد من المستويات من أجل محاربة الهجرة السرية، في معركة مفتوحة ضد من يتاجر في تهريب الأرواح البشرية والإلقاء بها في أعماق البحر.
       والمتتبع لوسائل الإعلام يجد أصداءً لهذه المواجهة، فلا يكاد يخلو يوم تقريباً من توقيف العديد من المهاجرين المرشحين للهجرة السرية، معظمهم من المغرب، والبعض الآخر من البلدان الأفريقية.
       وبفعل هذه التدابير والإجراءات أمكن تفكيك (1200) شبكة متخصصة في تهريب الأشخاص خلال سنة 2003، وفي نفس السنة تم بمدينة طنجة وحدها على سبيل المثال توقيف (10598) شخص متورط في الهجرة السرية كما تم أيضاً تفكيك (39) شبكة لتنظيم الهجرة السرية تضم (127) شخصاً(16).
       ولقد كان للتدابير والإجراءات القانونية المغربية لمكافحة الهجرة السرية دور إيجابيً في ردع بعض شبكات (مافيا الهجرة غير المشروعة)، ويتضمن القانون الجديد حول الهجرة تحريم الأنشطة المرتبطة بتهريب الأشخاص.
       كما يتعين على الاتحاد الأوروبي وقف الشبكات الاخطبوطية المتواجدة في الضفة الشمالية للمتوسط، والتي تخطط لعملياتها بعيداً عن الأعين لتهريب المزيد من الأشخاص الراغبين في الهجرة السرية، متسببة في سلسلة من المآسي الإنسانية والاجتماعية لعائلات الضحايا.
2. أوروبا هدفاً لموجات الهجرة غير الشرعية:
       تظل إشكالية ظاهرة الهجرة السرية الهاجس الأول لدول الاتحاد الأوروبي الخمس والعشرين، رغم كافة المبادرات والمؤتمرات والندوات والخطوات الأمنية والسياسية الردعية أوالتحضيرية فقد أخفقت هذه الدول حتى الآن في بلورة نهج مقنع في التعامل مع الهجرة غير القانونية وموجات نزوح الأجانب الباحثين عن مصادر الرزق والفرار من حالة التهميش في بلدان الجنوب.
       والجدير بالذكر أن الهجرة غير الشرعية ليست حديثة العهد، فلقد عرفت أوربا هذه الظاهرة في الفترة من التلاثينيات إلى الستينيات من القرن المنصرم، ولكن نظراً لحاجة أوروبا للأيدي العاملة، فلم تصدر قوانين تجرم عملية الهجرة غير الشرعية إلى أراضيها، ومع أوائل السبعينيات شعرت دول الإتحاد الأوروبي نسبياً بالاكتفاء من الأيدي العاملة الأجنبية، فسنت إجراءات قانونية تهدف إلى الحد من الهجرة إلى أراضيها وازدادت هذه الإجراءات حدة في بداية التسعينيات، وهي الفترة التي شهدت التوسع في الاتحاد الأوروبي، وفي منتصف التسعينيات اتخذت الدول الأوروبية طابعاً أمنياً صارماً لجأت فيه إلى نهج سياسة صارمة عبر تنفيذ اتفاقية
(شنجن) التي دخلت حيز التنفيذ في 19/6/1995، والتي تسمح لحامل تأشيرة أي دولة من دول الاتحاد الأوروبي الموقعة على هذه الاتفاقية بالمرور في أراضي بقية الدول، وكرد فعل لهذه الإجراءات الاحترازية، استفحلت ظاهرة الهجرة غير الشرعية وأصبحت نتاجاً للممنوع، ورد فعل أمام غلق الأبواب أمام الهجرة القانونية(17).

3.أوروبا وتدابير الحد من الهجرة غير الشرعية:
       تواجه الدول الأوروبية صعوبات كثيرة خاصة فيما يتعلق  بموضوع الهجرة غير الشرعية، فإلى جانب تدفق المهاجرين إليها فإنها تعاني مشاكل أخرى لها ارتباط مباشر بالهجرة، وذلك مثل تزايد نشاط السوق السوداء لليد العاملة والتهرب الضريبي والانفلات الأمني وما إلى ذلك من الجوانب الجدية إضافة إلى المتاعب التي تواجه الدول الأوروبية في إدارة علاقاتها مع الأطراف الأجنبية المصدرة للمهاجرين أو التي يعبرها المهاجرون غير الشرعيين وفي مقدمتها البلدان العربية وعلى رأسها بلدان المغرب العربي.
       ولأجل الحد من الهجرة اعتمدت المفوضية الأوروبية عدة إجراءات لدعم التعاون بين الدول الأعضاء في مجالات إدارة الحدود ومكافحة الهجرة غير الشرعية ، وتعتمد الخطة على ثلاثة محاور رئيسية، وهي أولاً: دفع الدول الأوروبية لاعتماد قاعدة بيانات ونظام موحد في التعامل مع إشكالية منح تأشيرات لدخول الرعايا الأجانب، وثانياً: إرسال فريق من رجال الأمن والمختصين قوامه ثلاثمائة شخص يمكن نشرهم عند الضرورة وفي الحالات الطارئة على نقاط الحدود الخارجية الأوروبية للمساعدة ولتنظيم عمليات التصدي لها.
       ويتمثل العنصر الثالث في اعتماد سياسة صارمة في مجال التصدي للهجرة السرية والاتجار باليد العاملة الأجنبية غير المرخص لها.
       وترى الدول الاوروبية أن لجوءها لهذا الخيار يعود بالدرجة الأولى إلى تزايد الضغط الذي يمكن
أن تمثله الهجرة خلال العقود القادمة في ظل الوضع الاقتصادي والسياسي في بلدان كثيرة من البلدان المصدرة للهجرة (18).

رابعاً- الهجرة حلول وآفاق:
       إن هذا الوضع وهذه المسؤولية التاريخية تتطلب من الدول المستقبلة للمهاجرين غير الشرعيين وخاصةً دول الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط أن تتحمل مسؤوليتها تجاه ما قامت به في الماضي من تسلط استعماري والذي كان سبباً في ظهور إشكالية الهجرة.
       وما يمكن أن تقوم به دول الاتحاد الأوروبي يتمثل في إقامة مشاريع تنموية وعلى نطاق واسع في البلدان المصدرة للهجرة لإيجاد الظروف المناسبة التي تغري مئات الآلاف بالبقاء داخل بلدانهم، دونما الحاجة إلى ركوب الخطر في اتجاه الضفة المقابلة للمتوسط هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهي مطالبة بتنظيم عملية الهجرة بالتنسيق الكامل مع البلدان المصدرة للهجرة، وذلك بتحديد القطاعات ومدى حاجاتها من المهاجرين وتنظيم ظروف استقبالهم وضمان بحقوقهم الكاملة، وكذلك عدم جعلهم يشعرون بأي تمييز أو أي ممارسة عنصرية، إن مثل هذا التنظيم وحده هو الكفيل بالقضاء على الظاهرة غير الشرعية، ويضع حداً لما يشعر به المهاجرون حالياً من حالات غبن واضطهاد وليدة سياسات تمييزية وعنصرية واضحة ما انفكت تعبر عن نفسها في الدول الأوروبية المسقبلة للعمالة المهاجرة(19).
       وفي المقابل على البلدان المصدرة للعمالة، وعلى رأسها بلدان المغرب العربي، أن تعالج الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة والتي تنبع أساساً من واقعها وما تعانيه من عجز وفقر في مجال التنمية البشرية، بالإضافة إلى تبعيتها لاقتصاد رأسمالي استغلالي يجعل منها سوقاً لتصريف السلع وإقامة التجارب، لكل ذلك يفضل بعض الشباب المغربي بصفة خاصة والمغاربي بصفة عامة مرارة عسل أوروبا بدلاً من واقع مزري وتهميش اجتماعي يرهن له حياته.
       إذا كانت عملية التنمية تفترض إشراك كل الشرائح الاجتماعية، وتستند إلى خطابات المواطنة، فإن أول ما تقتضيه المواطنة احترام حق الإنسان في العيش الكريم وإتاحة الفرصة له لإظهار قدراته، وهو ما يقتضي ادماج الشباب في الحياة اليومية لا أن يتم إقبار كفاءته وجعله يسلك طرق الانحراف والموت والضياع الذي تشكل الهجرة السرية أحد وجوهه(20).
الخلاصة:-
       ينبغي التعامل مع إشكالية الهجرة غير الشرعية أو السرية، باعتبارها ظاهرة اجتماعية ناجمة عن خلل وجب إصلاحه، ينبغي أن يتم وفق استراتيحية اجتماعية واقتصادية وتربوية متكاملة تشرك كل الفاعلين، وتراعي مصلحة كل الأطراف وبالتأكيد فإن هذه الرؤية الشمولية تجسد بالفعل، المنطلقات الأساسية لمعالجة الهجرة من منظور إنساني وتنموي واقتصادي، يؤدي حتماً إلى تحريك عجلة الإنتاج والتنمية المحلية وتقوية فرص الاستثمار، لتشغيل اليد العاملة التي تشكل مصدراً للهجرة السرية.
       وفي هذا الإطار يجب الإقرار بأن التعامل مع إشكالية الهجرة، يستلزم بالضرورة الانطلاق من المنظور الحقوقي، وذلك باستحضار البعد الإنساني في نسقه الكوني والشمولي لأن جميع المهتمين بموضوع الهجرة مقتنعون بأن المقاربة الأمنية وحدها ليست كافية لمعالجة قضايا الهجرة في إطارها العام.
       وتبعاً لذلك، فقد أصبح من اللازم إعادة النظر في هذه المقاربة وإغنائها برؤية جديدة تستند أساساً على مرتكزات قانونية وحقوقية واقتصادية وتنموية شاملة.
       وهذا الهدف لن يتأتى تحقيقه إلا من خلال تعاون فعال ودعم متواصل من دول الشمال لبلدان الجنوب في إطار من الشراكة الاستراتيجية القادرة على رفع التحديات التي تطرحها الهجرة، في مختلف جوانبها وأبعادها الإنسانية والاجتماعية، بغية إيجاد الحلول لكل المشاكل التي تفرزها الظاهرة (21) .
       ومن خلال استقراء العديد من المؤشرات الراهنة، يظهر أن هناك وعياً حقيقياً متزايداً بأهمية هذا النوع من التعاون الواضح المسؤول، والذي يراهن في الأساس على النهوض بثقافة حقوق المهاجرين.
       إن الدفاع عن حقوق المهاجرين لم يعد حقاً للبلدان المصدرة، بل حق دولي. فهناك اتفاقيات دولية صادرة عن الامم المتحدة كالاتفاقية الدولية لحماية العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، بالإضافة إلى الاتفاقيات الجهوية كالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والميثاق الاجتماعي الأوروبي والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان التي تهدف إلى فرض احترام الحقوق الإنسانية للمهاجرين.
       ويرجع هذا التحول الجذري بالأساس إلى القصور الملموس في بعض التشريعات الداخلية الوطنية على توفير حماية قانونية للمهاجرين، وذلك بسبب ارتكاز هذه التشريعات على مبدأ السيادة الوطنية الذي يخول لكل دولة حقاً انفرادياً في تحديد الوضعية القانونية للأجانب والحقوق التي يمكنهم مطالبة احترامها قضائياً، أضف إلى ذلك بروز مرجعيات جديدة تكرس لفائدة المهاجرين حقوقاً جديدة لا تستند على معايير الجنسية الذي يحكم على مستوى الدول، ممارسة الحقوق الخاصة منها المدنية والسياسية

هوامش ومراجع البحث:-
1.إبراهيم مذكور وآخرون: معجم العلوم الاجتماعية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1975، ص333 .
2.عبد اللطيف معروفي: الهجرة السرية والمهاجرون بدون أوراق في العلاقات المغربية
الأوروبية، النموذج الهولندي، منشورات الجمعية المغربية للأبحاث والدراسات حول الهجرة،
الرباط،( د.ت)، ص4.
3.عبد الغني شفيق: الشباب المغاربي والهجرة السرية، قسم علم الاجتماع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط.
4.ينظر ذلك في صحيفة:الاتحاد الاشتراكي، عدد (8324)، بتاريخ 12-13-8/2006،وينظر أيضاً  Mama di Camara: Qu ‘est-ce que fait revez les jeunes? l’opinion, 12-13/8/2006, P.6.
5.ينظر في ذلك: عبد الرحمن ابن خلدون: المقدمة، دار الفكر،(د.ت).
6.ينظر في ذلك: نشرة حقوق المهاجرين، مركز حقوق المهاجرين، العدد (1)، الرباط، 4/2004.
7.عبد الغني شفيق، مرجع سابق، ص6.
8.نجاح قدور:العولمة والهجرة غير المشروعة، بحث غير منشور، ص7.
9.نجاح قدور مرجع سابق، ص8.
10.ينظر في ذلك نشرة حقوق المهاجرين، العدد (1)، 4/2004.
11.صحيفة الإحداث المغربية.
12.ينظر في ذلك Khadija Skalli - aujourd’hui le maroc l’association marocaine des amis et familles des victims de l’immigration clandestine .
13.كنزة الغالي: نساؤنا المهاجرات في إسبانيا، منشورات الزمن، الدار البيضاء، 2004، ص23.
14.معمر القذافي: الكتاب الأخضر، الفصل الثالث، الركن الاجتماعي، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، طرابلس.
15.الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، الجمعية العامة للأمم المتحدة، قرار رقم 158/45 بتاريخ 8/12/1990، ودخلت حيز التنفيذ في 10/12/2002 .
16.نشرة حقوق المهاجرين، مرجع سابق، ص6.
17.نادية بن يوسف: الطيور المهاجرة في قبضة قوارب الموت!!، مقال في صحيفة الجماهيرية، عدد (5091) بتاريخ 29/11/2006، ص11 .
18.نجاح قدور: مرجع سابق، ص6.
19.ينظر في ذلك: علي أوحيدة:"الهجرة هاجس أوروبا الدائم"، صحيفة العرب في 21/7/2006 .
20.أحمد الجلالي: الحراكة... الموت لمواجهة الحياة، كتاب يومية الصباح، الرباط، 2001.
21.ينظر في ذلك: نص إعلان طرابلس المشترك لأفريقيا - الاتحاد الأوروبي حول الهجرة والتنمية، طرابلس في الفترة 22-23-11/2006.
بالإضافة إلى نص الكلمة التي ألقاها المفكر معمر القذافي في أثناء افتتاح المؤتمر الأوروأفريقي للهجرة والتنمية المنعقد بطرابلس في نفس الفترة.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-